الأحد ٢٤ تشرين الثاني ٢٠٢٤

منطلقات النهضة الحسينية وخلفياتها (مفاصل الحركة الحسينية)


تاريخ الاضافة:-2019-12-23 13:39:29 | عدد الزيارات: 1505

انتهت حقبة معاوية بتولّي يزيد السُّلطة, وتربّع على العرش من دون أيّ مشاكل في الشام, حيث إنَّ معاوية قد ذلّل له الصعاب وأخضع له الرقاب، بحسب ما ورد في وصيته له في آخر حياته. غير أنّ معاوية لم يرحل مرتاح البال تماماً على مستقبل يزيد, فقد كانت ثَمَّة هواجس جدّية وعقبات ليست بالهيّنة ستقف في طريق وَلَده يزيد. وأشدّ ما كان يتخوّف منه هو موقف الإمام الحسين عليه السلام وبعض الأشخاص في المدينة، مما بيّنه له في وصيّته التي تحدثنا عنها في القسم السابق من هذه الدراسة. من هنا؛ نرى أنّ يزيد كان مستعجلاً في أخذ البيعة من أهل المدينة ومن الإمام الحسين عليه السلام بالذات، كأوّل إجراء يقوم به بعد توليه السلطة. وقد بعث إلى والي المدينة الوليد بن عتبة كتابين،كتاباً عامّاً يأمره فيه بأخذ البيعة من أهل المدينة, وكتاباً خاصّاً يأمره فيه بأخذ البيعة من الحسين عليه السلام، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر, مرفقاً هذا الكتاب بتهديد صارخ يطلب منه أن يأخذ البيعة منهم بكُلّ ثمن، حتى ولو بتهديدهم بالقتل إن رفضوا. والي المدينة وحراجة الموقف وصل الكتابان إلى والي المدينة، فوَجل وجلاً شديداً، خصوصاً من الكتاب الصغير الذي وصفه المؤرخون كأنه أُذن فأرة، حيث يتضمّن تهديداً واضحاً بقتل الإمام الحسين عليه السلام إن رفض البيعة. فالوليد كان يعلم أنّ الحسين عليه السلام سوف لن يبايع, وقد رفض البيعة بولاية العهد ليزيد إبّان حياة معاوية، على الرغم مما كان يتمتع به معاوية من قوة وصرامة, وعلى الرغم من كُلّ الضغوط والتهديدات التي مارسها ضده, فكيف سيقبل بها الآن؟ كما أنه يعلم أنّ إجبار الحسين عليه السلام على ذلك ليس من السهل إلاّ بقتاله وقتله، كما ورد في كتاب يزيد, وهذه خطوة ليس من السهل عليه اتخاذها؛ نظراً لتبعاتها الدينية أولاً, وتبعاتها السياسية ثانياً, فإن مَن يلقى الله بدم الحسين عليه السلام لَخفيف الميزان يوم القيامة، كما صرّح هو بذلك لمروان بن الحكم عندما عاتبه على عدم قتله للحسين عليه السلام. وكذلك إذا ما تمّ النظر إلى التبعات السياسيّة لقتل الحسين عليه السلام؛ إذ إنه ليس شخصاً عادياً من عرض الناس حتى تتم تصفيته دون أضرار تهدد الكيان الأُموي برمّته، فضلاً عن الوليد ذاته, فمكانة الحسين عليه السلام الدينية والاجتماعية مكانة مرموقة جدّاً لا يدانيه فيها شخص آخر في الأُمّة, وسوف لن تمرّ عملية قتله دون أَضرار وتداعيات خطيرة. من هنا؛ استشعر الوليد حراجة الموقف، ولم يدر ما يصنع وأيّ قرار سيتخذ, فقرّر أن يبعث وراء مروان بن الحكم أحد شيوخ بني أُميّة ودُهاتهم، وأحد أعمدة الكيان الأُموي ليستشيره في الأمر, رغم الخصومة السابقة التي أدت إلى القطيعة بينهما, ولكنّ المسألة خطيرة جدّاً ينبغي تجاوز الخصومات معها؛ لأنّها تتعلّق بالكيان الأُموي برمّته. بعث الوليد وراء مروان، وأخبره بموت معاوية وتولّي يزيد السلطة، وأطلعه على مضمون الكتابين الذين وردا عليه من يزيد، وطلب منه أن يُعينه في اتخاذ الموقف تجاه ذلك, فقال له مروان: ( (ابعث إليهم في هذه الساعة، فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد, فإن فعلوا قبلت ذلك منهم, وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية؛ فإنّهم إن علموا ذلك وثب كُلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه, فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قِبَلهم ما لا قِبَل لك به وما لا يُقام له, إلا عبد الله بن عمر، فإني لا أراه ينازع في هذا الأمر أحداً إلا أن تأتيه الخلافة فيأخذها عفواً))[1]. وفي نصّ ابن قتيبة: ( (أرسل الساعة إلى هؤلاء النفر فخذ بيعتهم, فإن هم بايعوا لم يختلف على يزيد أحد من أهل الإسلام, فعجل عليهم قبل أن يفشي الخبر فيمتنعوا))[2]. من هذين النصّين نعرف أن خطة مروان كانت قائمة على أن يستعجل بدعوتهم قبل أن ينتشر الخبر ويشيع في الناس وأن يأخذ البيعة منهم سرّاً, فإن بايعوا وإلا ضرب أعناقهم. إنّ إصراره على أخذ البيعة منهم سرّاً يمكّنه من أن يُمارس عليهم مختلف الضغوط بما في ذلك التهديد بالقتل, وهو ما لا يستطيع فعله حينما يكونون وسط الجماهير, بل حينها سيستفيدون هم من ورقة الحضور الجماهيري ليؤلّبوا الناس على رفض البيعة. فأخذُ البيعة سرّاً يعطي معطيين هاميّن: فهو يوفر للوالي فرصة الضغط عليهم من جهة, ويسلب منهم الإفادة من ورقة الجمهور من جهة أُخرى, كما أنه يشكّل مباغتة لهم ويسلب منهم فرصة الخروج من المدينة، والتمكّن في أمصار أُخرى، وإعلان التمرّد على حكومة يزيد. فإذا تمّ له ما أراد واستطاع أن يأخذ البيعة منهم فسوف يخرج على الناس ويقول: هذا الحسين بن علي، وهذا عبد الله بن الزبير، وهذا عبد الله بن عمر قد بايعوا، فهلموا للبيعة؛ وحينئذ لا يلتوي على البيعة أحد, فمن سيرفض البيعة بعد أن قبل بها الإمام الحسين عليه السلام، فإن هم بايعوا لم يختلف على يزيد أحد من أهل الإسلام))[3]. لقد كانت خطّة ماكرة, ولكنّ الإمام الحسين عليه السلام اكتشفها وتنبّه لها ولخيوطها, واستطاع أن يفوّتها عليهم كما سنرى, حيث رفض أن يبايع سرّاً إلا أن يكون بين الجماهير. استدعاء المعارضين ركّز مروان خلال النّصّ السابق ـ لخبرته بالأُمور والأشخاص ـ على الإمام الحسين عليه السلام وعبد الله بن الزبير، مستثنياً عبد الله بن عمر الذي لا يخشى جانبه, وفعلاً لم يُستدع عبد الله بن عمر عندما استدعى الوالي الإمام الحسين عليه السلام وعبد الله بن الزبير: ( (فأرسل عبد الله بن عمرو بن عثمان ـ وهو إذ ذاك غلام حدث ـ إليهما يدعوهما, فوجدهما في المسجد وهما جالسان, فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس، ولا يأتيانه في مثلها, فقال: أجيبا الأمير يدعوكما. فقالا له: انصرف، الآن نأتيه. ثم أقبل أحدهما على الآخر، فقال عبد الله بن الزبير للحسين: ظُنّ فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟ فقال حسين: قد ظننت, أرى طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يَفشُوَ في الناس الخبر. فقال: وأنا ما أظن غيره. قال: وما تريد أن تصنع؟ قال: أجمع فتياني الساعة، ثم أمشي إليه، فإذا بلغت الباب احتبستهم عليه، ثم دخلت عليه. قال: فإني أخافه عليك إذا دخلت. قال: لا آتيه إلا وأنا على الامتناع قادر))[4]. لقد قرّر الإمام الحسين عليه السلام ـ خلافاً لابن الزبير ـ أن يمضي لمقابلة الوليد؛ لأنّه يعلم أن الوليد غير تاركه، وبدل أن يتمّ استدعاؤه بالقوة[5] وسوف لن يستجيب حتى تكثر القتلى وهو أمر لا نفع فيه لحركته التي خطّط لها, فمن الأفضل أن يذهب للقائه الآن مع الاحتراز لذلك؛ حيث لا يأمن أن يؤخذ غيلة, فلذلك جمع بعض مواليه وأهل بيته، وطلب منهم أن يرابطوا على دار الوالي، ولا يبرحوا مكانهم فإن استدعاهم أو سمعوا الصوت قد ارتفع اقتحموا الدار عليه وأخرجوه. دخل عليه السلام على الوالي، فوجده جالساً إلى جنب مروان, فسلمّ عليهما وجلس، فأقرأه الوليد الكتاب الذي أُرسل إليه ونعى إليه معاوية، ودعاه إلى البيعة فردّ عليه الحسين عليه السلام قائلاً: ( (أمّا ما سألتني من البيعة، فإن مثلي لا يُعطي بيعته سرّاً, ولا أراك تجتزئ بها منّي سرّاً دون أن نظهرها على رؤوس الناس علانية؟ قال: أجل. قال: فإذا خرجتَ للناس فدعوتَهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس، فكان أمراً واحداً. فقال له الوليد ـ وكان يحب العافية ـ: فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس))[6]. لقد اكتشف الحسين عليه السلام خيوط اللُّعبة التي حاكها مروان، ولهذا رفض أن يُعطي بيعته سرّاً, واستطاع أن يُقنع الوليد بذلك؛ لأنه لن يستفيد شيئاً من بيعته سراً, إذ إن هدفه أن يستفيد من بيعة الامام الحسين عليه السلام إعلامياً ليُقنع بقية الناس ببيعة يزيد, وهذا لا يتم إذا لم يرَ الناس الحسين عليه السلام مبايعاً يزيد أمامهم, فحتى لو خرج إليهم الوليد وقال لهم: إنَّ الحسين قد بايع يزيد البارحة ليلاً. فلن يصدقه كثيرون؛ لما يعرفونه من موقف الإمام الحسين السابق في رفض البيعة. اقتنع الوليد بذلك وأذِنَ للإمام عليه السلام بالانصراف, ولكنّ مروان تدخّل، وقال: ( (والله، لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه, احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلك الحسين عليه السلام فقال: يا بن الزرقاء، أنت تقتلني أم هو؟! كذبت ـ والله ـ وأثمت. ثم خرج فمرّ بأصحابه فخرجوا معه حتى أتى منزله))[7] وفي نصّ ابن أعثم: ( (ويلي عليك ـ يا بن الزرقاء ـ أتأمر بضرب عنقي؟! كذبت والله, والله، لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك, وإن شئت ذلك فرُمْ ضرب عنقي إن كنت صادقاً))[8]. ويظهر أن مروان بن الحكم لم يكن لديه اطلاع بأن الحسين عليه السلام قد أخذ احتياطاته اللازمة، وجاء بجماعة من مواليه وأهل بيته، وأنهم ينتظرون إشارته على الباب, وأنهم لو دخلوا لقتلوا كُلّ مَن في البيت بما في ذلك مروان نفسه؛ إذ لم يكن معه إلا مجموعة من حراس الوالي. وقد كان ردُّ الإمام الحسين عليه السلام حاسماً وجريئاً لم يترك لمروان بعده قائلة. ويضيف ابن أعثم: ( (ثُمّ أقبل الحسين عليه السلام على الوليد بن عتبة وقال: أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم, ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله, ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة))[9]. ويظهر من هذا النّصّ أنّ ردّ الإمام الحسين عليه السلام كان واضحاً وحاسماً ومثلي لا يبايع مثله، فالإمام الحسين عليه السلام قد اتخذ القرار بعدم بيعة يزيد, وهذا قرار لا تراجع عنه ولا مجال للمواربة فيه, ولذلك فالوليد لم يبعث بعدها وراءه ليفاوضه؛ لأنّه أدرك أن المسألة قد حُسِمت بالنسبة إلى الحسين عليه السلام , وهكذا أدرك مروان ذلك, ولهذا حينما التقى بالإمام عليه السلام بعد ذلك في إحدى طرق المدينة حاول أن يتعامل معه بدبلوماسية ناعمة ـ بعد أن كان يحرّض على قتله ـ لعلّه يُقنعه ببيعة يزيد ويجعله يتراجع عن قراره, فقد روى ابن أعثم: ( (وأصبح الحسين من الغد خرج من منزله ليستمع الأخبار, فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه, فقال: يا أبا عبد الله، إني لك ناصح، فأطعني تُرشَد وتُسدّد. فقال له الحسين: وما ذلك قل حتى أسمع! فقال مروان: أقول: إني آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد؛فإنه خَوَلُك في دينك ودنياك. قال: فاسترجع الحسين، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد...))[10]. وهذه ـ كما يبدو ـ كانت آخر المحاولات لإقناع الحسين عليه السلام بالبيعة, فقد رجع مروان إلى الوليد وأخبره بما جرى مع الحسين عليه السلام، فكتب الوليد عند ذلك كتاباً إلى يزيد، يخبره بالأوضاع في المدينة، وأمر عبد الله بن الزبير وموقف الحسين عليه السلام ( (فلما ورد الكتاب على يزيد غضب لذلك غضباً شديداً ـ وكان إذا غضب انقلبت عيناه فعاد أحول ـ قال: فكتب إلى الوليد بن عتبة: مِن عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة, أما بعد، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة ثانياً على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم, وذرْ عبد الله بن الزبير؛ فإنه لن يفوتنا ولن ينجوَ منا أبداً ما دام حياً, وليكن مع جوابك إليّ رأس الحسين بن علي, فإن فعلت ذلك جعلت لك أَعِنَّة الخيل, ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر والنعمة واحدة, والسلام. ولما ورد الكتاب على الوليد بن عتبة وقرأه تعاظم ذلك وقال: لا والله، لا يراني الله قاتل الحسين بن علي, وأنا لا أقتل ابن بنت رسول الله، ولو أعطاني يزيد الدنيا بحذافيرها))[11]. ويبدو أن موقف الوليد كله لم يرُقْ ليزيد؛ لذلك عجّل بعزله، ونصب مكانه عمرو بن سعيد الأشدق. مغادرة المدينة لم يلبث الحسين عليه السلام بعد ذلك كثيراً في المدينة، فقرّر الخروج منها متوجهاً إلى مكة المكرمة. وقرار الإمام الحسين عليه السلام بمغادرة المدينة له مبرراته الموضوعية؛ فإنّ المدينة لم تكن لتوفر له الحماية الكافية إن دُوهم فيها من قبل الجيش الأُموي, كما أنّها لا تصلح لأن تكون حاضنة للثورة لكي يفجر ثورته فيها, ولم نشهد من خلال ما لدينا من نصوص أيَّ تضامن من قِبَل أهل المدينة، أو من قِبَل شخصياتها النافذة مع قراره برفض البيعة ليزيد, فلم يجتمع معه أيّ وفد من أهل المدينة، ولم يدعم موقفه أيٌّ من شخصياتها, كما أنّه حينما قرر الخروج منها لم يخرج معه أحد, على الرغم من أنه خرج علانيّة وفي وضح النهار، وسلك الطريق الأعظم رافضاً لبيعة يزيد. إنّ موقف أهل المدينة بصورة عامّة يحتاج إلى دراسة وافية تُبين أسباب هذا التراجع الخطير في دور الأنصار, فقد بدوا وكأنهم يعيشون على الهامش في كل المنعطفات التي مرّ بها المجتمع الإسلامي, بعد أن كان لهم الدور الريادي الكبير والفاعل في نصرة الرسول والرسالة حتى استحقوا لقب الأنصار. لا يسعنا في هذه المقالة أن نخوض في تفاصيل هذه الانتكاسة في مجتمع المدينة، وهو بحث بحاجة إلى دراسة أوسع وأشمل, ولكن ما يمكن قوله هنا: إنّ الأنصار عاشوا حالة من التهميش والإقصاء بدأت مع مؤتمر السقيفة, حيث رفضت قريش أن تمنحهم أيّ منصب من المناصب, فبعد أن كانوا يطالبون بالخلافة تمّ رفض مطالبهم بصرامة, ولما تنازلوا عنها وقبلوا بالمناصفة ونادوا: منا أمير ومنكم أمير. تمّ رفض ذلك أيضاً. وبعد ذلك لم يعهد لأيّ من الأنصار بمنصب سياسي أو عسكري مرموق في جميع الحكومات المتعاقبة, مما عزّز من شعورهم بالإقصاء والتهميش. ولمّا وصل الأمر إلى بني أُميّة أمعنوا في إقصائهم وحرمانهم وإذلالهم؛ لما يحملونه لهم من بغض شديد؛ نتيجة مواقفهم الداعمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع حروبه التي خاضها ضد المشركين، وكان بنوا أُميّة قادة الشرك آنذاك، وفقدوا فيها الكثير من رجالهم. ولدينا كثير من الشواهد التاريخية التي تدلل على ذلك، ولكن لا مجال لسردها هنا. وهذا الإمعان في الاستضعاف قد يُفضي إلى نتيجتين متعاكستين: فقد يؤدي إلى الثورة والتمرّد والعصيان, وقد يؤدي إلى الرضوخ والسكون والرضا بالواقع؛ حيث يَدجُن الناس على استمراء الضيم. ويظهر أنّ هذا الأخير هو ما حدث لأهل المدينة من الأنصار, عززه شعورهم بأنهم أقلية في المجتمع الإسلامي، لا يملكون الكثير من الخيارات تجاه قريش ومَن معها من مسلمة الفتح. ولربما شعر الأنصار ـ من ناحية سياسية ـ أنه ليس لهم في الأمر نصيب مهما حاولوا, فلا داعي لأن يدخلوا في نزاعات ليس لهم فيها مكسب سياسي على كُلّ الأحوال, ولهذا رضوا بالواقع كما هو, وقد أفل نجمهم وقل تأثيرهم في الواقع الإسلامي، حتى لم يعودوا رقماً يمكن أن يُعوَّل عليه. وما حدث بعد ذلك من تمرّد في المدينة انتهى بواقعة الحرة كان مجرد ارتدادات للزلزال الحسيني الذي أحدثه في كربلاء. المحطّة المكّيّة اختار الحسين عليه السلام مكّة المكرّمة كمحطّة من المحطّات لثورته, فمكّة لم تكن أحسن حالاً من المدينة من الزاوية الثورية, ولكن مكّة كانت تتميّز بميزة تفتقدها المدينة، وهي كونها بيئة مناسبة للعمل الإعلامي والتواصل مع بقية الأمصار الاسلامية؛ باعتبارها قِبلَة المسلمين، وتحتضن بيت الله الحرام الذي لا يخلو من الحجاج والمعتمرين. وفعلاً، بمجرد أن وصل إلى مكّة المكرّمة بدأ الناس يتوافدون عليه, سواء في ذلك أهل مكة أو بقية الوافدين من الأمصار: ( (فأقبل حتى نزل مكة، فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه، ومَن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق))[12]. لقد بدأ الحسين عليه السلام نشاطاً إعلامياً مكثّفاً في مكّة المكرّمة, حيث كان جُلّ وقته مشغولاً بلقاء الناس والحديث معهم في مختلف الشؤون: ( (فعكف الناس على الحسين يَفِدون إليه ويقدمون عليه, ويجلسون حواليه, ويستمعون كلامه, حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد))[13]. وبالإضافة إلى لقاءاته في داخل مكّة المكرّمة بعث عليه السلام بعض الكتب إلى خارجها, فقد أرسل كتاباً موحداً إلى زعماء الأخماس والزعماء في البصرة، يبين فيه أحقية أهل البيت عليهم السلام بمنصب الخلافة ويدعوهم إلى نصرته, وقد ختمه بالقول: ( (وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب, وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإن السنّة قد أُميتت, وإن البدعة قد أُحييت, وإن تسمعوا قولي وتُطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته))[14]. وكان ممن كتب إليه: مالك بن مسمع البكري, والأحنف بن قيس, والمنذر بن الجارود, ويزيد بن مسعود النهشلي, وقيس بن الهيثم, وعمرو بن عبيد الله بن معمر. لقد جاءت استجابة هؤلاء متفاوتة، فبعضهم ـ مثل الأحنف بن قيس ـ كتب إلى الإمام عليه السلام يوصيه بالصبر والأناة, بل الرسالة كُلّها كانت عبارة عن الآية الكريمة: {فاصبر إنّ وعد الله حق ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون}[15]. وبعض كانت استجابته سيّئة، مثل المنذر بن الجارود؛ فإنه قد أمسك رسول الإمام، وبعث به إلى عُبيد الله بن زياد فقتله. وبعض كانت استجابته جيّدة، كيزيد بن مسعود النهشلي رحمه الله؛ فإنه عقد مؤتمراً عامّاً دعا فيه القبائل الموالية له من تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلما اجتمعوا عنده قام فيهم خطيباً فقال: ( (يا بني تميم، كيف ترون موضعي فيكم؟ فقالوا:بخٍ بخٍ! أنت والله فقرة الظهر، ورأس الفخر، حللت في الشرف وسطاً، وتقدمت فيه فرطاً. فقال لهم: إنّي جمعتكم لأمر أُريد أن أُشاوركم وأستعين بكم عليه... إن معاوية مات... وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنه قد أحكمه، وهيهات الذي أراد! اجتهد ـ والله ـ ففشل، وشاور فخُذِل, وقد قام يزيد شارب الخمور وراس الفجور يدعي الخلافة على المسلمين، ويتأمر عليهم بغير رضا منهم مع قُصر حلم وقلّة علم، لا يعرف من الحق موطأ قدميه، فأُقسم بالله قسماً مبروراً، لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين. وهذا الحسين بن علي وابن رسول الله، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضل لا يوصَف وعلم لا ينزف, وهو أوْلى بهذا الأمر؛ لسابقته، وسِنّه وقِدَمه، وقرابته، يعطف على الصغير، ويُحسن إلى الكبير, فأكرِمْ به راعي رعية، وإمام قوم وجبت لله به الحجة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحق، ولا تسكعوا في وهد الباطل, والله، لا يقصّر أحدُكم عن نصرته إلا أورثه الله الذل في وُلده والقلّة في عشيرته, وها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها، وأدرعت بدرعها، مَن لم يُقتَل يمت، ومَن يهرب لم يفت، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب))[16]. فقام بعضهم ملبيّا ًدعوته ومؤيداً لنصرته، وبعضهم كان من المترددين. موقف أهل الكوفة لقد عرفنا ـ في الأقسام السابقة من هذه السلسلة ـ أنّ أهل الكوفة كانوا على تواصل دائم مع الإمام الحسين عليه السلام منذ أيّام معاوية, وكانوا يفدون عليه، ويكتبون له الكتب يدعونه فيها للثورة، غير أنه كان يأمرهم بالتريّث والانتظار إلى ما بعد معاوية. ولمّا بلغهم موت معاوية عقدوا مؤتمراً مهماً في دار سليمان بن صُرد الخزاعي؛ ليقرروا فيه الإجراءات اللازم اتخاذها في هذه اللحظة التاريخيّة الفاصلة, وقد قرّروا أن يكتبوا له كتاباً يدعونه فيه إلى القدوم إلى الكوفة، ويُبدون فيه استعدادهم لنصرته ومؤازرته على عدوه, فكتبوا كتاباً جاء فيه بعد البسملة: ( (من سليمان بن صُرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، الذي انتزى على هذه الأُمة فابتزّها أمرها، واغتصبها فيئها، وتآمر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود! إنّه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق, والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نُلحقه بالشام إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته))[17]. ولم يكتفوا بهذه الرسالة، وإنما بعثوا له قيس بن مسهّر الصيداوي مع رجلين آخرين، وحملوهما نحواً من ثلاثة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة. ثم لبثوا بعد ذلك مدّة، فكتبوا له كتاباً مع هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي جاء فيه: ( (لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين, أما بعد: فحيّهلاً؛ فإنّ الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك, فالعجل العجل والسلام ورحمة الله عليك))[18]. وقد توالت الكتب والرسائل على الإمام عليه السلام حتى ملأ منها خرجين, بل رُوي أنّه اجتمع عنده عليه السلام اثنا عشر ألف كتاب[19]. لم تدفع هذه الكتب الإمام الحسين عليه السلام للتحرّك نحو الكوفة, فلا بدّ من شخص يدرس الواقع دراسة ميدانية، ويقيّم الأوضاع عن قُرب، ويكتب له عن حقيقة الموقف؛ لذلك قرّر عليه السلام أن يبعث شخصاً يثق بأمانته ونصحه ووعيه وبصيرته؛ لكي يدرس له الأوضاع، ويقدّم له تقييماً شاملاً وصادقاً عنها؛ ليتخذ الموقف المناسب حيالها. وقرّر عليه السلام أن يبعث ابن عمه مسلم بن عقيل عليه السلام؛ ليقوم بهذه المهمة الخطيرة, فبعثه إلى الكوفة، وبعث معه إلى أهلها كتاباً جاء فيه: ( (من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين... أما بعد: فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم, وكانا آخر من قدِم عليّ من رُسلكم, وقد فهمت كُلّ الذي أقتصصتم وذكرتم, ومقالة جُلَّكم: إنّه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق. وقد بعثت لكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي, وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم؛ فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري، ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله والسلام))[20]. مسلم بن عقيل والمهمّة الخطيرة المهمّة الأساسية لمسلم بن عقيل ـ إذاً ـ هي دراسة الأوضاع في الكوفة، ورفع تقرير بها إلى الإمام الحسين عليه السلام , وقد وصل إلى الكوفة ونزل في دار المختار الثقفي. لا نعلم السبب الذي دعاه لاختيار منزل المختار, فالمختار على رغم تشيّعه لأهل البيت وفطنته وحنكته وسياسته, لم يكن له ثقل كبير في الكوفة آنذاك, مقارنة ببعض الزعماء الآخرين, بل إنّ المختار وبحسب ما لدينا من نصوص لم يكن من الذين راسلوا الحسين عليه السلام في جملة من راسله ودعاه. إلا أن هناك نقطة مهمة لا ينبغي إغفالها, وهي أن المختار كان صهراً لوالي الكوفة النعمان بن بشير, وهذا يمكن أن يشكل غطاءً سياسياً له, وهذا ربّما هو السبب الذي دعا النعمان بن بشير أن يغض الطرف نوعاً ما عن تحركات مسلم بن عقيل, حتى كتب بعض الموالين لبني أُمية إلى يزيد كتاباً يخبرونه فيه بأنّ النعمان ( (ضعيف أو يتضعّف))[21]. ففي قولهم: ( (يتضعّف))، إشارة واضحة إلى أنّه لم يكن جادّاً وحاسماً في معالجة حركة مسلم بن عقيل عليه السلام، ولذلك لما عُزل النعمان عن الكوفة وجاء عبيد الله بن زياد مكانه اضطرّ مسلم لمغادرة بيت المختار إلى بيت هانئ بن عروة؛ باعتباره يشكل ثقلاً عشائرياً في الكوفة يمكنه أن يحتمي به. أيّاً كان السبب, فقد توافد الناس على منزل المختار حينما علموا بنزول مسلم بن عقيل فيه, فقام عليه السلام، وقرأ عليهم كتاب الإمام الحسين عليه السلام , فعمّ الفرح كما عمّ البكاء, وقام بعض الأشخاص وتحدثوا ببعض الكلمات, وأوّل مَن قام هو عابس بن شبيب الشاكري رضوان الله عليه, وتكلّم بكلمة واعية جدّاً، قال فيها: ( (أما بعد، فإني لا أُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرّك منهم, والله، إنّي محدّثك عمّا أنا موطَّن عليه نفسي, والله، لأُجيبنّكم إذا دعوتم, ولأُقاتلنّ معكم عدوّكم, ولأضربنّ بسيفي دونكم حتى ألقى الله, لا أُريد بذلك إلا ما عند الله))[22]. ويظهر من كلامه أنّه لم يكن مطمئناً لموقف الناس, ولهذا قال: ( (لا أغرّك منهم))، وأرسم لك صورة ورديّة عن صدقهم وتفانيهم, وفي كلامه رسالة لمسلم أو قل: إيحاء بأنّ عليه أن يكون مُدرِكاً لهذا الأمر ولا يغترّ بالناس. قام بعده حبيب بن مظاهر الأسدي رحمه الله، فخاطب عابساً قائلاً: ( (رحمك الله، فقد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك, وأنا ـ والله الذي لا إله الا هو ـ على مثل ما أنت عليه)). ثم قام بعدهم سعيد الحنفي رحمه الله وقال مثل ما قال صاحباه. وصدق هؤلاء ما عاهدوا الله عليه، فاستُشهدوا في كربلاء مع سيد الشهداء عليه السلام. تقييم مسلم للأوضاع لم يكتف مسلم بن عقيل عليه السلام بدراسة الأوضاع واستطلاع الآراء, بل راح يعمل على الدعوة للإمام الحسين عليه السلام وأخذ البيعة له, وقد استطاع أن ينجح في ذلك نجاحاً ملحوظاً إذا ما لاحظنا ظروف السريّة التي كان يتحرّك فيها, فقد بايعه جمّ غفير من أهل الكوفة، اختلف المؤرخون في تحديده ما بين اثني عشر ألفاً إلى أربعين ألفا. غير أن المشهور هو أن عدد المبايعين بلغ ثمانية عشر ألفاً, وهو ما يؤكده مسلم بن عقيل في رسالته للإمام الحسين عليه السلام التي ذكر فيها تقييمه للأوضاع في الكوفة, حيث كتب له: ( (أما بعد، فإنّ الرائد لا يَكذِب أهلَه, وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي؛ فانّ الناس كلهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى. والسلام))[23]. وفي هذه الرسالة الموجزة جدّاً يُعطي مسلم بن عقيل عليه السلام رأيه وتقييمه للأُمور في الكوفة, فبعد دراسة شاملة ومعايشة يومية للواقع توصّل إلى أنّ الناس جميعاً مع الحسين عليه السلام، وليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى. لكن ما دقة هذه الرؤية وهذا التقييم بالنسبة إلى الواقع؟ هل كان كل أهل الكوفة مع الحسين عليه السلام وليس لهم في آل معاوية رأي أو هوى؟ أم أنّ تقييم مسلم بن عقيل للأوضاع لم يكن دقيقاً؟ إذا كان واقع الكوفة مطابقاً لما ورد في كتاب مسلم, فلماذا وقف أهل الكوفة بالضد من الحسين عليه السلام ما بين مقاتل وخاذل له؟ لماذا انضموا إلى جبهة بني أُمية وتركوا الحسين وحده في رُبى الطفوف؟! إنّ تقييم مسلم للأُمور ـ وهو ثقة الحسين عليه السلام ـ كان تقييماً دقيقاً, فمسلم كان يتحدث عن الجانب السياسي والجانب العاطفي, وأشار بقوله: ( (ليس لهم في آل معاوية رأي))، إلى الجانب السياسي, وبقوله: ( (ولا هوى)). إلى الجانب العاطفي. وإذا ما درسنا أوضاع الكوفة آنذاك فسنصل إلى النتيجة نفسها؛ فعلى المستوى السياسي كان الرأي العام بصورة عامة ـ ما عدا بعض الجيوب الأُموية ـ مع الحسين عليه السلام , أمّا بالنسبة إلى المكوّن الشيعي فالأمر فيه واضح, وأمّا بقية الناس فقد عاشوا تجربة حكم الأُمويين طوال عشرين سنة في ظلّ الحكم الأُموي الذي استباح الدماء ونهب الأموال وقتل الأشراف, وسلّط أكثر الجلادين بشاعة ودموية على الأُمة؛ فإنّها باتت أكثر رغبة في التخلص منه، واستبداله بنموذج آخر عايشته لفترة قصيرة ورأت في ظلّه العدل والحرية والكرامة والرخاء، وهو عهد الإمام علي عليه السلام. وأمّا على المستوى العاطفي، فإنّ هوى الكوفة بصورة عامة مع أهل البيت عليهم السلام، وخصوصاً الإمام الحسين عليه السلام الذي وصفه معاوية في وصيته لابنه يزيد بالقول: ( (مَن القلوب إليه مائلة, والأهواء نحوه جانحة, والأعيُن إليه طامحة, وهو الحسين بن علي))[24]. ولدينا شواهد كثيرة على ذلك. فما الذي حصل يا ترى؟! ولماذا وقفت الكوفة في الجبهة المناوئة للحسين عليه السلام إذا كان رأيها وعاطفتها معه بصورة عامة؟ المشكلة لم تكن في الرأي أو في العاطفة, وإنّما المشكلة كانت في صدق الموقف. لقد لخصّ الفرزدق وآخرون ممن التقى بهم الإمام الحسين عليه السلام الجواب عن ذلك بكلمة واحدة: ( (قلوبهم معك وسيوفهم عليك)). إنها الازدواجية إذاً, ازدواجية العواطف والمواقف، وهو ما أثار استغراب الإمام السجاد عليه السلام لما دخل مع ركب السبايا إلى الكوفة، فاستقبلهم أهلها بالبكاء والعويل فقال عليه السلام: ( (هؤلاء يبكون علينا، فمن قتلنا غيرهم؟!))[25] ونفس هذا الموقف تكرّر مع الإمام الحسن عليه السلام قبل ذلك، فقد روى ابن عساكر: ( (أنّ الإمام الحسن عليه السلام خطب أهل الكوفة فقال: يا أهل الكوفة، اتقوا الله فينا، فإنّا أمراؤكم ونحن ضيفانكم, ونحن أهل البيت الذين قال الله فينا: {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. قال هلال: فما سمعت يوماً قط كان أكثر باكياً ومسترجعاً من يومئذ))[26]. فهؤلاء الذين يبكون هم الذين خذلوه, صدقت عواطفهم وكذبت مواقفهم. وحالات البكاء هذه تتكرّر في أكثر من موقف ذكره التاريخ، وهو ينمّ عن عاطفة تجاه أهل البيت عليهم السلام ولكنها بقيت مجرد عاطفة بعيدة عن صدق الموقف. ولعلّنا نلمس في خطبة السيدة زينب عليها السلام بعد ذلك إشارة واضحة إلى هذه الازدواجية, فقد قالت عليها السلام مخاطبة أهل الكوفة: ( (ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف, والصدر الشنف, وملق الإماء, وغمز الأعداء, أو كمرعى على دمنة, أو كفضة على ملحودة))[27]. أي: مظاهركم جميلة تغرّ الناظرين، ولكن مخابركم قبيحة تُسيء الخابرين, وشعاراتكم برّاقة أخّاذة ولكن مواقفكم سيئة ومتخاذلة, فشتّان بين منظركم ومخبركم, كالمرعى الجميل الزاهي الذي يُعجب النظّار، ولكن أصله دمنة نبت عليها وتغذّى منها, أو كالقصة أو الرخامة الجميلة التي توضع على القبر وتحتها جثة هامدة متوارية فيها, وهذا أدقّ وصف يمكن تقديمه عنهم آنذاك. أما سبب هذه الازدواجية التي كان يعيشها المجتمع الكوفي, فهو يحتاج إلى بحث وتقصّي, فليست المسألة جينيّة حتى يُسد باب البحث فيها, وإنّما هي ناشئة من ظروف موضوعية أدت إليها, وعلينا أن نبحث عن تلك الأسباب والظروف, وهذا ما سنعمل عليه في مقالة أُخرى إن شاء الله تعالى. الكاتب: السيد محمد الشوكي