حث ممثل المرجعية العليا، والمتولي الشرعي لحرم الإمام الحسين، عليه السلام، سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي، المؤمنين على الاهتمام بطلب العلم واستثمار أعمارهم بالعلم النافع. جاء ذلك خلال الخطبة الأولى من صلاة يوم الجمعة التي تقام بإمامته في الصحن الحسيني المطهر بحضور حشد غفير من المؤمنين. واستشهد سماحته حول ذلك بنقل رواية عن الإمام الباقر، عليه السلام، "ان قلباً ليس فيه شيء من العلم كالبيت الخراب الذي لا عامر له". ودعا الكربلائي إلى حضور مجالس العلم والذكر والوعظ والارشاد والاتقاء. وقال "المطلوب من المؤمن إذا اراد التقوى أن يراقب نفسه وسمعه وقراءته للعلوم النافعة". وفي ما يلي النص الكامل للخطبة الاولى من صلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 22/ذي القعدة/1437هـ الموافق 26 /8 /2016م : نذكر بعض المقاطع من خطبة المتقين لأمير المؤمنين (عليه السلام) يصف فيها المتقين : (وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ وَلَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ) (وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ) وقفوا أي حبسوا أسماعهم على العلم النافع لهم في الدنيا والاخرة الموجب لكمال القوة النظرية والحكمة العملية وأعرضوا عن الاصغاء الى اللغو والمحرمات من الغيبة والغناء والفحش ونحو ذلك.. فهم قد ادركوا اهمية العلم في حياتهم الدنيوية والاخروية وضرورة استثمارهم لأيام عمرهم في الحصول على هذه العلوم النافعة. عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (أُفٍ لكل مسلم لا يجعل في كل جمعة – يعني اسبوع- يوماً يتفقه فيه أمر دينه ويسأل عن دينه). وعن الامام الباقر (عليه السلام) : (ان قلباً ليس فيه شيء من العلم كالبيت الخراب الذي لا عامر له). وعن الامام علي (عليه السلام) : (العلم مصباح العقل). والعلوم الاخروية هي العلوم المتعلقة بمعرفة الله تعالى وصفاته والنبوة والامامة والمعاد والاحكام الشرعية للعبادات والمعاملات وعلوم التربية للنفس وتهذيبها ونحو ذلك.. والعلوم الدنيوية هي العلوم الضرورية لحياة الانسان وعمارة الارض وخدمة الانسان في مختلف جوانب حياته ومنها ما يتعلق بصحة الانسان وسلامته والصناعة والزراعة وبقية العلوم التي لها مدخلية في خدمة الفرد والمجتمع ورفعته وعزته وتطوره.. ومن الواضح للجميع اهمية حاستي النظر والسمع في حياة الانسان فمن خلالهما يرتبط بجميع الاشياء من حوله فبالعين يقرأ ما ينفعه من العلوم ويطلع على مقاصد الغير ومشاعرهم وآرائهم ومواقفهم ويقرأ التاريخ لينتفع من تجاربه وبالسمع يسمع رسالات السماء ومقالات الاخرين وكلامهم بما فيه من علوم ومعارف وغير ذلك مما يحتاج اليه حاجة ضرورية وعلى ضوء ما يستفيده من حاتين الحاستين يتحرك وينظم حياته وفقدهما او استخدامهما في غير ما ينفعه سيلحق به ضرراً كبيراً في الدارين الدنيا والآخرة.. لذلك ورد التركيز عليهما باستخدامهما فيما هو نافع وتحصينهما مما هو ضار في الدارين.. ومن هنا فالمطلوب من المؤمن اذا اراد التقوى ان يراقب نفسه وسمعه وقرائته فيقتصر على ما هو النافع من العلوم فيحرص على حضور مجالس العلم والذكر والوعظ والارشاد.. عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : مجالسة العلماء عبادة. عن امير المؤمنين (عليه السلام) : العقل ولادة ، والعلم إفادة، ومجالسة العلماء زيادة. (نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ وَلَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ) أي انهم لا فرق في احوالهم بين البلاء والرخاء من حيث الرضا والتسليم لله تعالى فيما يقضيه عليهم ويقدره لهم فهم كما يشكرون الله تعالى في الرخاء يشكرونه في البلاء فلا يكون حالهم ولسانهم الشكر عند الرخاء والجزع عند البلاء والسخط لقضاء الله تعالى وقدره.. بل حالهم ولسانهم متساويان في كلا التقديرين.. فهم قد وطنّوا أنفسهم على ما قدرّه الله تعالى في حقهم من الشدة والرخاء والسراء والضراء والضيق والسعة والمنحة والمحنة والمرض والصحة والعافية والبلاء فهم راضون بالقضاء ويسلمون له في كل الاحوال.. فاذا ما انعم الله تعالى عليهم تراهم شاكرين ينفقون ما انعم الله تعالى عليهم بما يرضيه ولا يصيبهم البطر والسكر النعمة وحبس الحقوق والنفقة على الغير واذا ما اصابهم البلاء تراهم لا يجزعون ولا يحزنون فهم راضون برضا الله مسلِّمون لارادته في جميع الاحوال فهم يعلمون ان الله تعالى الذي بيده مقادير الامور حكيم رحيم بهم وهو ارحم من الام بولدها ولا يقدّر سوى ما فيه مصلحة المؤمن ويعلمون من جانب آخر ان الجزع وعدم الرضا ازاء المحن والمصائب والحوادث ليس فقط لا يحل الازمة بل يحبط الاجر والثواب واحياناً يضاعف من تبعات المشكلة وبالتالي يوجب اليأس والقنوط.. وقد وردت عدة روايات بشأن الصبر والرضا والتسليم منها : عن الامام الصادق (عليه السلام) : رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحبّ العبد أو كَرِه، ولا يرضى عبد عند الله فيما أحَبَّ أو كَرِه إلاّ كان خيراً له فيما أحبَّ أو كَرِه. وقد وردت عدة آيات قرآنية توضح حال الانسان بإزاء الحالات الحياتية التي يمر بها ، منها قوله تعالى : " إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) – سورة المعارج- . وقوله تعالى : (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً (83) – سورة الاسراء- . ثم يقول الامام (عليه السلام) : (وَلَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ) فهؤلاء لوصولهم الى مرتبة اليقين وزوال الشك والترديد عنهم بما عرفوا من قدرة الله تعالى وعظمته فقد غلب عليهم الشوق الى ثواب الله تعالى والخوف من عقابه على نفوسهم وبلغ مرحلة تكاد ارواحهم لا تستقر في اجسادهم طرفة عين وانما المانع من ذلك هو الاجل الذي كتبه الله تعالى لهم، وهذا الشوق والخوف اذا بلغ حد الملكة فانه يستلزم دوام الجد في العمل والاعراض عن الدنيا ومبدؤهما تصور عظمة الخالق وبقدر هذا التصور يكون تصور عظمة وعده ووعيده وبحسب قوة ذلك التصور والادراك يكون قوة الخوف والرجاء.. ويكون ذلك من خلال التأمل في الآيات القرانية والنظر بتفكر الى عظيم خلقه وصنعه في الكون.. ثم يقول (عليه السلام) : (عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ) علماً منهم بانه سبحانه موصوف بالعظمة والكبرياء والجلال غالب على الاشياء كلها، قادر على كل شيء، قاهر عليها، وان كل من سواه مقهور تحت قدرته مقلوب لأمر الله واخر ذليل في عبوديته فهو سبحانه عظيم السلطان عظيم الشأن وغيره ذليل أسير مفتقر اليه لا يقدر على شيء إلا بإذنه.. فهو خالق السموات والارض وما بينهما ورب العرش العظيم والكرسي الرفيع ولا يؤده حفظهما وقد ثبت ان كل خالق اعظم من مخلوقه ومصنوعه وغيره صغير حقير في نفسه تجاه خالقه ومدبر أمره.. وانما قال في اعينهم وفي الخالق في انفسهم، لأن غيره محسوس واما هو تعالى فليس بمحسوس فيعظمه في النفس وصُغر غيره في العين، فالواجب تعالى لا يدرك بالكنه ولا يرى بالعين لكونه فوق الادراك وخارجاً عن الحواس فعظمه يعلم من صفاته وآثاره واما المخلوق فليس كذلك فصِغره يعلم بسبب الحواس.. وكلما عظمت معرفة الانسان بالله صغر ما سواه في نظره وصغرت الدنيا في عينيه وضعفت لديه أسباب الذنب واستشعر المزيد من الطمأنينة والسكينة.. (فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ) ابن ميثم البحراني (قدس) قال في شرح هذا المقطع : (اشارة الى ان العارف وان كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدته بعين بصيرته لا حوال الجنة وسعادتها واحوال النار وشقاوتها كالذين شاهدوا الجنة بعين حسهم وتنعموا فيها، وكالذين شاهدوا النار وعذّبوا فيها، وهي مرتبة عين اليقين).