اعتبر ممثل المرجعية العليا في كربلاء المقدسة، سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي، أن الفرصة في العراق الآن مواتية للخوض في الدراسات الإسلامية والتفقه في الدين، في إشارة منه إلى تعذر ذلك في زمن النظام البائد. وقال سماحته خلال خطبته الأولى من صلاة يوم الجمعة، التي ألقها بحضور حشد من المصلين في الصحن الحسيني المطهر، إن وقتنا الحاضر فان جميع الفرص والظروف مؤاتية للتفقه في الدين. وأضاف، "لا عذر لاحدنا ان اهمل هذا الجانب الاساس في عبادته وارتباطه بالله تعالى فلا تشغلنه الحياة الدنيا ومباهجها ولذاتها عن ذلك". وفي ما يلي النص الكامل للخطبة الاولى من صلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 24/شوال/1437هـ الموافق 29 /7 /2016 م : تمرُّ علينا يوم غد المصادف 25 من شوال ذكرى وفاة الامام الصادق (عليه السلام) ويجدر بنا ان نستعرض شيئاً من منهجه الذي ربّى عليه اصحابه واتباعه وترك لنا ثروة من كنوز المعرفة وتربية النفس، ومن سمات مدرسة الامام الصادق هو الاهتمام الكبير بنشر علوم الاسلام وغيرها ومواجهة موجات الفكر الالحادي الذي اخذ يغزو العالم الاسلامي آنذاك.. فبدأ الامام (عليه السلام) يبث علومه في مسجد جده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على آلاف من الطلبة ممن ينتهج منهج آل البيت وغيرهم من اصحاب المدارس الاسلامية الاخرى ناشراً الخزين الالهي الكبير من احاديث جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع علوم الاسلام.. بل حتى في علوم اخرى كعلم الفلك والطب والكيمياء وغيرها.. وذلك لمواجهة المشكلات الفكرية التي عصفت بالعالم الاسلامي آنذاك.. واعتمدت مدرسة الامام الصادق (عليه السلام) على العمق الفكري والحجة من القرآن الكريم والحديث والعقل وكانت تطرح رأيها العلمي من غير تعرض للاخرين باسلوب السب او الشتم او الانتقاص او الطعن لئلا يستفز الطرف الآخر ويثيره بل كانت تقيّم رأيه علميا وتدحض ما يظن انه حجة لديه بالدليل والبرهان والاسلوب الحكيم.. وكانت حركته العلمية جزءاً من برنامجه الاصلاحي للمجتمع ولا بأس هنا بذكر بعض الاحاديث التي تحث الانسان على طلب العلم والتفقه في الدين لئلا يكون ضحية الجهل والتضليل من الاخرين .. لذلك ندعو الاخوة والاخوات من الشباب والكبار رجالا ً ونساءاً الى التعلم ممن تشرّفنا بالانتساب اليه .. كان يأمر اصحابه الذين يلقي عليهم علومه ببث ونشر هذه العلوم لينتفع بها بقية الناس.. فقال للمفضل بن عمر : "اكتب وبثّ علمك في اخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك، فانه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه الا بكتبهم". وقد اهتم اصحابه (عليه السلام) بتدوين ما أملى عليهم الامام (عليه السلام) حتى اجتمعت الاصول الاربعمائة الاولى والتي شكّلت المجاميع الرئيسية الاولى عند اتباع اهل البيت عليهم السلام.. ايها الاخوة والاخوات : وفي وقتنا الحاضر فان جميع الفرص والظروف مؤاتية للتفقه في الدين لذلك لا عذر لاحدنا ان اهمل هذا الجانب الاساس في عبادته وارتباطه بالله تعالى فلا تشغلنه الحياة الدنيا ومباهجها ولذاتها عن ذلك.. ومن شدة حرص الامام الصادق (عليه السلام) على تعلّم شيعته واتباعه حتى انه قال: لوددت ان اصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا في دينهم. وعنه (عليه السلام) : قال : سارعوا في طلب العلم فوالذي نفسي بيده لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة. وورد عن الائمة عليهم السلام ان قيمة الانسان وقدره بعلمه وادبه. ورد عن علي (عليه السلام) : يا مؤمن ان هذا العلم والادب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمها فيما يزيد من علمك وادبك يزيد في ثمنك وقدرك فان بالعلم تهتدي الى ربك وبالادب تحسن خدمة ربك، وبأدب الخدمة يستوجب العبد ولايته وقربه، فاقبل النصيحة كي تنجو عن العذاب. وورد في بعض الاخبار : "ان العبد يؤتى به يوم القيامة فيقال له : هلاّ عملت فيقول: ما علمت فيقال له : هلاّ تعلمت. وفي حديث آخر : العلمُ اصلُ كُلِّ خير، الجهلُ اصلُ كُلِّ شر. اهتمامه بالجانب الاخلاقي والتربوي وتهذيب النفس : فالامام (عليه السلام) لم يجعل نشاطه العلمي منفصلاً عن حركته التغييرية الشاملة نحو الاصلاح، بل اهتم جداً بتهذيب اصحابه على الخلق القويم والصفات الرفيعة.. فكان (عليه السلام) يكثر من وصاياه ورسائله الى شيعته وكذلك توجيهاته المباشرة وتنبيهاته الى اتباعه اذا لاحظ منهم خللاً في صفاتهم التربوية والاخلاقية.. فقد خاطب (عليه السلام) شيعته واصحابه قائلا ً: "فان الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وادى الامانة وحسّن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري ، فيسرّني ذلك ويدخل علي من السرور وقيل: هذا أدب جعفر واذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل : "هذا أدب جعفر".. وهذا يعني اخواني من يسوء خلقه مع الناس فانما يسيء الى ائمته والى مذهبه ودينه وينعكس عليهم (عليهم السلام) سلباً.. ومن جملة وصاياه لاصحابه التسليم للحق في الحوار او النقد وعدم التأثر بالعصبية للقوم او العشيرة او المذهب او غير ذلك فيكون الانحياز والتعصب والميل بالاهواء والاعتداد بالنفس حائلا ً دون التسليم للحقيقة واستماعها والعمل بها وان كانت للاخرين فقال (عليه السلام) : المُسلِّم للحق اول ما يصل الى الله". ومن الامور التربوية المهمة التي ربّى الامام اصحابه عليها ليكونوا بالمستوى المطلوب من الوعي والنضج والسلامة في التفكير واتخاذ المواقف الصحيحة هو عدم التسرّع والتثبت من الامور. قال (عليه السلام) : مع التثبت تكون السلامة ومع العجلة تكون الندامة، ومن ابتدأ بعمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه. ومن جملة وصاياه لشيعته تحذيره من الثرثرة في الكلام وعدم التحرز من محرمات الكلام وامرهم بضبط اللسان واشار في عدد من كلماته (عليه السلام) الى خطورة الكلام وآثاره الخطيرة في الحياة الدنيا والآخرة، كما حذّر ايضاً من الاستجابة لهوى النفس.. فقال (عليه السلام) : ان كان الشؤم في شيء فهو في اللسان، فاخزنوا السنتكم كما تخزنون اموالكم واحذروا اهوائكم كما تحذرون اعدائكم فليس أقتل للرجال من اتباع الهوى حصائد السنتهم. كما حذّر من ان يكون الانسان مدعياً ومتظاهراً بالتشيع والولاء لاهل البيت عليهم السلام وهو يخالفهم في سيرتهم واخلاقهم.. فقال (عليه السلام) : ان ابغضكم اليّ المترأسون المشاؤون بالنمائم الحسدة لاخوانهم ليسوا مني ولا أنا منهم..انما اوليائي الذين سلّموا لامرنا واتبعوا آثارنا وافتدوا بنا في كل امورنا.. ومن جملة وصاياه تأكيده على شيعته بالحفاظ على علاقات المحبة والتآلف فيما بينهم والابتعاد عما يكدِّر هذه العلاقات من نزاع وتخاصم ومحاولة بذل الجهود لفض النزاعات بالحسنى والتسامح والعفو.. وحذّر من ظاهرة المقاطعة بين الاخوة ، فقال (عليه السلام) : لا يفترق رجلان على الهجران الا استوجب احدهما البراءة واللعنة وربما استحق ذلك كلاهما فقال له معتب: جعلني الله فداك هذا الظالم ، فما بال المظلوم.. قال: لانه لا يدعو اخاه الى صلته ولا يتعامس (يتغافل) له عن كلامه سمعت ابي يقول: اذا تنازع اثنان فعادى، وفي نسخة (فعازّ) احدهما الآخر فليرجع المظلوم على صاحبه حتى يقول لصحابه: أي اخي انا الظالم، حتى يقطع الهجران فيما بينه وبين صاحبه فان الله تبارك وتعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم.