إنَّ الدولة المهدوية هي في خاتمة الزمان فهي آخر دولة، وهنا يأتي السؤال: لماذا لم يجعل الله تعالى هذه الدولة في أوّل الزمان؟ ولماذا لم يهيّئ الله الأسباب للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً، لكي تكون له هذه الدولة الكبرى؟ وبعبارة علمية، يقول علماؤنا: قاعدة (اللطف) هي الدليل على ضرورة النبوّة والإمامة، كما هو مصطلح في علم الكلام. فمقتضى قاعدة اللطف أن يبعث الله الأنبياء وأن ينصّب الأئمّة وأن ينزّل الكتب من السماء، لأنَّ المجتمع الإنساني يحتاج إلى نظام عادل، وهو غير قادر في نفسه على إيجاد نظام عادل ينسجم مع جميع الحضارات، ومع جميع الأجيال لمحدودية عقله، فلا بدَّ أن ينزل هذا النظام العادل من السماء لأنَّ عدم إنزاله إمَّا لجهله تعالى بحاجة البشرية وهو عالم بكلّ شيء، أو لعجزه عن ذلك وهو القادر على كلّ شيء، أو لبخله وهو الجواد المطلق. إذن مقتضى لطف الله تعالى بالمجتمع الإنساني أن ينزّل عليهم النظام العادل الذي يحتاجونه. ولقد استدلَّ علماؤنا بهذه القاعدة على ضرورة وجود الأنبياء والأئمّة وضرورة وجود كتب سماوية تحقّق النظام العادل، وهذه القاعدة أيضاً يمكن أن يستدلَّ بها على ضرورة وجود الدولة المهدوية من زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فكما أنَّ مقتضى لطف الله بالأمّة أن يبعث الأنبياء وينزل عليهم الكتب، فهو يقتضي أيضاً أن يؤسّس لهم دولة مهدوية عامّة منذ زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلماذا تأخَّرت الدولة المهدوية إلى آخر الزمان؟ وما هي الحكمة في تأجيل ذلك إلى آخر الزمان؟ الجواب: هنا أمور ثلاثة: الأمر الأوّل: المادة منشأ النقص: يقول الفلاسفة: المادة منشأ النقص، والتجرّد منشأ الكمال، فالجسم المادي ناقص، لأنَّ المادة منشأ للنقص، وذلك لأنَّ الجسم المادي محفوف بحاجبين كبيرين: حاجب الزمان وحاجب المكان. فالإنسان لا يستطيع أن يتحرَّر لا من الزمان ولا من المكان، مثلاً: الإنسان لا يستطيع أن يعلم بما خلف الجدار، لأنَّه مادة والمادة تشغل حيّزاً من الفراغ فلا يمكن لها أن تشغل الأمكنة كلّها، بل لا بدَّ أن تشغل مكاناً معيَّناً، فصار المكان حاجباً لعلمه بما وراءه، وكذلك الزمان فلا يمكن للإنسان أن يعلم بما سيحصل في المستقبل، لأنَّ الزمان يمنعه. فإنَّ المادة تشغل مكاناً وزماناً فيحجبها ذلك عن الامتداد لما ورائه، فالزمان والمكان حجابان يمنعان الإنسان عن رؤية ما وراءهما، وكلّ ذلك لأنَّ الإنسان مادي، بينما المتجرّد عن كونه جسماً مادياً لا يحجبه المكان ولا الزمان، فالملائكة وإن كانت هي المدبّر لعالم المادة لكنَّها ليست جسماً مادياً، فلذلك تعلم بما وراء المكان والزمان لأنَّ المكان والزمان لا يحجبانها، فالمادي ناقص لأنَّه مبتلى بحجابين والمجرَّد كامل لأنَّه غير مبتلى بذلك. إذن المادة منشأ النقص والتجرّد منشأ الكمال. حقيقة الروح قبل وبعد التلبّس بالجسد ما هو الفرق بين الروح قبل أن تصبح في عالم المادة والروح بعد أن تصبح في عالم المادة؟ نحن كنّا أرواحاً في عالم الذرّ قبل أن ننزل إلى هذا العالم، فكنّا مجرَّدين نعيش كمالاً وهو رؤية ملكوت الله تبارك وتعالى، وكنّا نسبّح الله لرؤيتها، قال تعالى: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام: ٧٥)، وكلّ روح قبل أن تنزل إلى عالم الدنيا كانت ترى الملكوت وتشاهده وتسبّح الله، فهي تعيش كمالاً فعلياً، ولمَّا نزلت إلى عالم المادة ارتبطت بالجسد فأصبح الجسد سجناً يحجبه الزمان والمكان. الأمر الثاني: التراكمية الثقافية ولتقريب الفكرة نضرب مثالاً: إنَّ الطفل في أوائل عمره لا يمكنه أن يتعلَّم معلومات الجامعة، ولو فرضنا أنَّ له ذاكرة قويّة يستطيع من خلالها حفظ المعلومات لكنَّه لا يتفاعل معها، وكذا طالب الطبّ لا يمكنه أن يتعلَّم معلومات سبع سنين في يوم واحد، لأنَّ الحواسّ محدودة القدرة، والمحدود لا يمكنه أن يتفاعل مع أيّ معلومة إذا لم يمرّ بالتراكمية الثقافية. فالطفل الصغير لا يمكنه التفاعل مع معلومات الجامعي لأنَّه لم يمرّ بالتراكمية الثقافية، والشاب في أوّل الجامعة لا يتفاعل مع رسالة الدكتوراه لأنَّه لم يمرّ بالتراكمية الثقافية التي تؤهّله لاستيعاب المعلومات. والناس وإن كانوا يتفاوتون في الفهم فشخص يستوعب المعلومات في خمس سنين والآخر لا يستوعبها إلاَّ في عشر سنين، ولكن هذا تفاوت في السرعة والبطء لا غير، إلاَّ أنَّ التراكمية الثقافية عنصر ضروري في التفاعل مع المعلومة، وكلّ ذلك ناشئ عن كون الإنسان مادياً والمادي محدود القدرة. الأمر الثالث: حاجة البشرية للتراكمية الثقافية وصلنا إلى النتيجة والجواب على إشكالية لماذا لم تعط الرسالة المحمّدية للبشرية منذ يوم آدم؟ وما هو السرّ في تأخير رسالة الإسلام لما بعد آلاف السنين من تاريخ البشرية؟ والجواب هو حاجة البشرية للتراكمية الثقافية لكي تكون مؤهّلة لاستيعاب رسالة الإسلام، فلو أعطيت البشرية رسالة الإسلام منذ يوم آدم لما تفاعلت معها، ولأصبحت الرسالة فاشلة، فالرسالة الإسلاميّة تحتاج إلى مستوى من الثقافة تمرُّ به البشرية حتَّى تكون مؤهّلة لاستيعاب هذه الرسالة. إذن كما أنَّ الله تعالى أجَّل رسالة النبيّ إلى ما بعد آلاف السنين من تاريخ البشرية، كذلك أجَّل الدولة المهدوية إلى آخر الزمان، لأنَّها تحتاج إلى مستوى ثقافي وحضاري لا تملكه البشرية إلى الآن، لكي يؤهّلها للتفاعل مع دولة الإمام المهدي. لذا فالمجتمع البشري لكي يستطيع أن يتفاعل مع معلومات هذه الدولة وقوانينها وأنظمتها يحتاج إلى مساحة زمنية واسعة وحيث إنَّ البشرية لم تصل إلى هذا المستوى، لذلك لم يحن موعد الدولة بعد، ولو أعطيت الناس الدولة الخاتمية منذ زمن النبيّ أو زماننا هذا لفشلت ولم يستفد الناس منها، ولنضرب بعض الأمثلة. مثلاً: الإمام علي عليه السلام كان يشكو ويقول: (يَا كُمَيْلُ... إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً _ وَأشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ _ لَوْ أصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً) (1)، أي لا يوجد من يفهمني، فأنا سابق زماني. وكذلك تراه يقف على نهر الفرات ويقول: (لو شئت لجعلت لكم من الماء نوراً وناراً) (2)، في ذلك الوقت الذي لا تفهم الناس الرابط بين الماء والكهرباء، فهو يتكلَّم عن معلومة سبقت زمانه لا يستطيع الناس أن يتفاعلوا معها. والناس كانت تقرأ قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: ٨٨)، ولم تكن تفهم هذه الآية في زمان نزولها. والناس كانت تقرأ هذه الآية: (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذاريات: ٤٧)، التي تشير إلى نظرية التمدّد في الفضاء، هذه النظرية حديثة ولم تكن الناس تعرفها زمن نزول الآية. ونأتي الآن على مستوى علم النفس، فإنَّ من أهمّ نظريات علم النفس الاستبطاني العقل الباطن، واكتشافه أسهم في حلّ مشاكل وأمراض نفسية كثيرة، بينما اكتشاف منطقة العقل الباطن قد ورد في الروايات وفي الآيات، قال تعالى: (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (طه: ٧)، وقال الإمام علي عليه السلام: (مَا أضْمَرَ أحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ) (3)، لكن البشرية لم تكتشف العقل الباطن إلاَّ في زماننا، وإنَّما ذكرت هذه الحقائق في القرآن وحديث الأئمّة قبل زمانها لتكون دليلاً على إعجاز القرآن وإعجاز أهل البيت عليهم السلام. إذن يمكن القول بأنَّ السرّ في تأجيل الدولة المهدوية إلى آخر الزمان هو أنَّ التفاعل معها يحتاج إلى مستوى عالي من الثقافة، وإلى الآن لم تمرّ البشرية بالتراكمية الثقافية التي تؤهّلها للتفاعل مع دولة المهدي المنتظر عليه السلام، فلو أعطوا هذه الحضارة في زمن سابق لكان في غير محلّه، لكونها دولة فاشلة وعقيمة لا يمكن أن يتفاعل معها المجتمع البشري. آية الله السيد منير الخباز (كتاب الحقيقة المهدوية دراسة وتحليل) تحقيق مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي _______________________________ 1- نهج البلاغة ٤: ٣٦/ ح ١٤٧. 2- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسُنّة والتاريخ للريشهري: ٣٠٢، نقلاً عن تصنيف نهج البلاغة: ٧٨٢. 3- نهج البلاغة ٤: ٧/ ح ٢٦.