المتأمل في كلمات وخطب امير المؤمنين (عليه السلام) يجد اهتماماً واضحاً ومركزاً على بناء الفرد المستقيم في منهجه وسلوكه والمجتمع الصالح والدولة العادلة الصالحة للتأسيس والقيادة لمثل هذا المجتمع... وهي المبنية على وجود قيادة مؤهلة (الراعي) والافراد الصالحين الذين يؤسسون ويحافظون على صلاح الامة ومنهم تنبثق الدولة العادلة.. نجد ان التأمل والتتبع لكلمات امير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة وفي غير ذلك من كلماته نجد اهتماماً واضحاً ومركزاً في ثلاثة امور: الامر الاول: بناء الفرد المستقيم في منهجه وفكره وسلوكه. الامر الثاني: بناء المجتمع الصالح. الامر الثالث: بناء الدولة العادلة والقادرة على تأسيس وصنع هذا المجتمع الصالح والقادرة على رعاية وقيادة هذا المجتمع الصالح الذي ينبثق منه الرجال القادرون على الوصول لهذه الاهداف. سنذكر في هذه الخطبة ما يتعلق بـ (الامر الاول) وهو بناء الفرد والمواطن الصالح المستقيم الذي تتحقق فيه الاستقامة في فكره ومنهجه وسلوكه. نجد الامام (عليه السلام) يركز على اساس مهم وهو الاعتناء الشديد بمسألة تربية وتزكية النفس التي يمكن من خلالها الفرد يصل الى المطلوب من بناء الشخصية الصالحة للمواطن، ونرى في المنهج التربوي لنهج البلاغة مجموعة من الاسس لبناء المواطن الصالح ومنها: 1- التربية القرآنية: (القران) هو الكتاب السماوي الذي احتوى على كل القوانين والتشريعات والسنن التاريخية التي تبني الانسان بناء كاملا ً يسمو به الى مراتب الكمال والرقي الانساني والمجتمعي، ولذلك يأتي القرآن الكريم في المرتبة الاولى في اداء هذه الوظيفة.. قال امير المؤمنين (عليه السلام): (وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ.. زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى) فالقرآن الكريم هو البلسم الشافي من الامراض والافات العقائدية والاخلاقية والاجتماعية والنفسية ولا علاج لما يعانيه الانسان والمجتمع من الامراض التي تفتك بحضارته وكيانه الا من خلال هذا الكتاب السماوي... متى ما تعاملنا مع القران الكريم على انه كتاب منهاج شامل للحياة نصل الى هذه الاهداف والامام (عليه السلام) يبين ان الانسان اذا اخذ بهذه الوظيفة القرانية لا يحتاج الى شيء بعد ذلك فيقول (عليه السلام): (وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ) لذلك اوصيكم اخواني كما نصرف الكثير من الوقت والجهد في تعلّم الكثير من العلوم فلنخصص شيئاً من الوقت الكافي لتعلم القران الكريم والاهتمام بالمشاريع القرانية والاهتمام بالدورات القرانية وان نحول مساجدنا ليس للصلاة فقط وانما الى مكان نتفقه فيه في احكام ديننا ونتعلم فيه القراءة الصحيحة للقران ونتعلم فيه علوم القرآن ومعاني القران الكريم.. ايضاً اجتمعوا واهتموا بإقامة المشاريع القرانية لأنه نحن نحتاج الى تعلم القراءة الصحيحة وفهم معاني القران الكريم وحثّوا بناتكم واولادكم على الحضور في الدورات القرانية.. والان بحمد الله تعالى كثير من اماكن العبادة والمعاهد تقام فيها الدورات القرانية بتعلم القراءة الصحيحة وبيان الاحكام وحفظ القران الكريم وفيها شيء من التفسير فحثّوا اولادكم وبناتكم على الحضور في هذه الدورات كما تشجعون اولادكم على الحضور في المدارس لكي يتعلموا العلوم الاكاديمية وتتابعون تحصيلهم الدراسي وتتابعون درجاتهم الامتحانية وتفرحون وتسعدون اذا حصلوا على الدرجات العالية في الامتحانات وتألمون وتحزنون اذا كانوا قد رسبوا في الدراسة الاكاديمية.. ينبغي ان يكون تعاملكم مع القران الكريم اكثر من ذلك حثّوا انتم انفسكم اخواني.. لا يستحي الواحد منكم رجلا ً او امرأة حتى الرجل كبير السن او الامرأة كبيرة السن فليذهب الى الاماكن التي تقام فيها المحافل القرانية.. فالعيب ان يبقى ويترك هذه الدنيا وهو غير ضابط لقراءة القران الكريم وهو لا يعرف احكام الصلاة.. فهذا العيب وليس العيب ان يجلس شيخ كبير الى جنب صبي صغير ليتعلم.. فحثّوا انفسكم واولادكم وساهموا في بناء هذه المشاريع القرانية لكي ينتشر القران الكريم باحكامه وتعاليمه وسط المجتمع.. 2- تقوى الله تعالى: نجد ان مفهوم التقوى ومواردها والحث عليها من اكثر الموارد استعمالا ً في نهج البلاغة وفي كلمات امير المؤمنين (عليه السلام) بصورة عامة.. فالتقوى هي تلك القوة الروحية التي تحصن الانسان من الوقوع في المحرمات والمخالفات بصورة عامة وتجعل له عنصر الاقدام والاندفاع نحو الخير والصلاح والطاعة بما يجعله انساناً متقوماً بالاندفاع نحو الخير والارتداع عن الشر في نفس الوقت.. وتعطيه قدرة وارادة وتسلط كافي على نفسه وغرائزها.. يقول امير المؤمنين (عليه السلام): (اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَلَا يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ أَلَا وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا) ولأهميتها البالغة في التربية الانسانية الصالحة نجده (عليه السلام) لم يترك فرصة الا وأكد على هذه الخصلة المهمة والمؤثرة.. فهي التي حمت الانسان من المحارم وجعلت له القوة الروحية والارادة الفعالة لاجتناب المحارم التي هي اساس شقاوة الانسان وهلاكه.. 3- ذكر الله تعالى: وهي واحدة من الاصول التربوية المهمة (ذكر الله تعالى في كل وقت وحال) وهي اساس لجميع الاثار التربوية والاخلاقية والاجتماعية، فذكر الله يجلو القلب ويزكيه ويصفيه ويطهره ويعده لإجراء الحكمة فيه وعلى لسانه.. قال (عليه السلام): (إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاءً لِلْقُلُوبِ تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ وَمَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ) والذكر بالمعنى الاوسع هو المطلوب والذي يشمل الذكر باللسان وبالقلب وبالجوارح وهو ما يحصل للانسان المؤمن من تذكر لله تعالى عند اقدامه على معصية او اقباله على طاعة.. فالذكر يردعه ويوفر له قوة مانعة والذكر يرغبه ويدفعه لأنه يوفر له قوة معنوية وروحية باعثة على الطاعة والخير.. 4- اقتران العمل بالعلم: ومن الواضح جداً اهمية هذا الاقتران وذلك لكثرة الايات القرانية التي اشارت لذلك فقلما نجد آية في القران تشير الى فلاح الذين آمنوا وقرنها الله تعالى بالعمل الصالح (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وهذا المنهج التربوي اشار اليه امير المؤمنين احد الاسس المهمة في النهج التربوي.. فالعلم والمعرفة القائمة على التصورات والافكار البحثة فقط لا قيمة لها بل ربما تكون وبالا ً على صاحبها ولا يترتب عليها ادنى منفعة بل قد تؤدي به الى المهلكة كما لو كان هذا العلم سبباً للغرور والترفع والعجب والكبر.. 5- حفظ الجوارح وخصوصاً اللسان: ربما ينكشف لنا يوم القيامة ان اكثر ما يعرضنا الى المحاسبة والمعاقبة اللسان وآفات اللسان طبعاً النظر فيه آفات والسمع فيه آفات واشدها على الانسان اللسان، منها الغيبة والنميمة والسب والبهتان والافتراء وغير ذلك من الامور التي قد تسبب تهديم العلاقات الاجتماعية وربما تؤدي الى القتل والى الحروب بسبب الكلام.. اذ يقول الامام (عليه السلام): (ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَتَهْزِيعَ الْأَخْلَاقِ وَتَصْرِيفَهَا وَاجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً وَلْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ وَاللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ) ثم يقول امير المؤمنين (عليه السلام): (وَإِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ وَإِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَإِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لَا يَدْرِي مَا ذَا لَهُ وَمَا ذَا عَلَيْهِ وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ). فليجرب الواحد منكم هذه الآلية.. حينما يريد ان يتكلم فليتفكر هل هذه الكلمة غيبة او نميمة هل هذا الكلام افتراء او بهتان او سوء ظن.. فليتفكر وهو لا يحتاج الا الى ثانية او اقل فليتفكر وتجد ان الله تعالى يلهمه يجد ان هذا الكلام غيبة مثلا ً فليتوقف ولا يتكلم، وان كان هذا الكلام خير فليتكلم به.. فالامام (عليه السلام) يقول ان من علامات المؤمن ان يكون قلبه قبل لسانه على عكس المنافق يكون قلبه وراء لسانه فتراه يتكلم ولا يدري هل هذا الكلام له نافع ام عليه وسيترتب عليه حساب وعقاب شديد.. لذلك اخواني اذا اراد الواحد منكم ان يتكلم لا يتعجل ولا يسرع في الكلام فيحاول ان يتفكر في كلامه واحياناً السكوت فيه سلامة للمؤمن.. وفقنا الله واياكم لما يحب يرضى والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين..